مدونة لتزكية القلوب ،ودحر الشبهات عن التصوف الحق،الذي هو تحقيق مقام الإحسان ثالث أصول الإسلام.

الأربعاء، 30 ديسمبر 2009

ما دليل محبتك لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ؟

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه:
قال سيدنا الشيخ أحمد فتح الله جامي ـ حفظه الله تعالى وبارك بحياته وعلمه ـ :
دليل محبتك لله عز وجل اتباعك لرسول الله صلى الله عليه وسلم في ظاهرك وباطنك ,
ودليل محبتك لرسول الله صلى الله عليه وسلم اتباعك لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في ظاهرك وباطنك ,
ودليل محبتك لعباد الله تعالى أن تكون صادق المعاملة معهم وأن لا تخدعهم , فكما تحب ألاّ تُخدع فلا تخدع .
و أكثر أهل الطريق يُخدعون لصدقهم ولإخلاصهم يقولون : هذا لا يقول إلا صدقا وحقا فيتبعونه , فإذا به يخدعهم ويوجههم لنفسه لا إلى ربه ,فيا طلاب العلم:لا تستغلوا صدق الصادقين وإخلاص المخلصين لحظوظكم النفسانية بل حولوهم إلى الله عز وجل حتى يتعلموا قول الحق ولا يخشوا في الله لومة لائم لأنهم إذا تعلقوا بالله تعالى فإنهم يأخذون بوصية الله عز وجل حيث يقول تعالى : ( وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى ) .وإذا دعوتم أحدا ً إلى الله تعالى ولم يستجب لكم وغضبتم , انظروا هل هذا الغضب لله عز وجل أم لأنفسكم ؟ فإن كان لله تعالى فوجب عليكم أن تنظروا في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف عامل قومه عندما دعاهم إلى الله عز وجل ولم يستجيبوا له وأما إن كان غضبكم لأنفسكم فهذا من الشرك الخفي , وهذا ليس من شأن الصادقين المخلصين في الدعوة إلى الله تعالى , لأن الصادق المخلص يعلم أن مراده لن يتحقق إذا لم يرد الله تعالى ويعلم كذلك أنه ليس له من الأمر شيء فيفوض أمر إلى الله عز وجل . لذ ترى شخصاً تنفعل له الأرواح وشخصا آخر لا تنفعل له الأرواح , كل هذا له تعلق بالصدق والإخلاص , فلا تلتفتوا إلى مكانتكم عند الخلق على حساب دينكم , فمن التفت إلى الخلق على حساب دينه لم يبق له مكان في الدين ولا في الإسلام ولا في الرجولة .انتهى
جزاه الله خير الجزاء .
والرجولة المقصودة هي التي وصف الله أصحابها فقال تعالى (( رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار ))
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا الصادق الأمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه

محاسبة النفس عند الصوفية

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ،والصلاةوالسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
قال سيدينا الإمام عبدالقادر عيسى رحمه الله تعالى ـ وهو يتكلم عن المحاسبة ـ :
وللصوفية في هذا المقام قدم راسخة وجهاد مشكور، وهم على أثر الرسول صلى الله عليه وسلم ينهجون منهجه، ويهتدون بهديه. قال صلى الله عليه وسلم: “الكيِّسُ من دان نفسَه وعمل لما بعد الموت، والعاجز مَنْ أتْبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني” [رواه الترمذي في كتاب صفة القيامة عن شداد بن أوس رضي الله عنه وقال: حديث حسن. الكيس: العاقل. دان نفسه: حاسبها].
ومن حاسب نفسه لا يترك لها سبيلاً إلى الاشتغال بالباطل، إذ هو يشغلها بالطاعات، ويلومها على التقصير مع الله تعالى خشية منه، فكيف تجد سبيلاً إلى اللهو والبطالة؟!
قال السيد أحمد الرفاعي رحمه الله تعالى: (من الخشية تكون المحاسبة، ومن المحاسبة تكون المراقبة، ومن المراقبة يكون دوام الشغل بالله تعالى) [“البرهان المؤيد” للسيد أحمد الرفاعي ص56].
وما أشبه حال الصوفية في هذا بما كان يأخذ به النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه من تربية روحية خالصة تغرس في نفوسهم اللوم الباطني؛ فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوماً من بيته، يطوي بطنه على الجوع، فالتقى بصاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فعلم منهما أن أمرهما كأمره، وأنهما لا يجدان قوت يومهما، والتقى بهم رجل من الأنصار، لم تخدعه بشاشتُهم، فعلم أمرهم فاستضافهم، فلما وصلوا إلى منزله وجدوا تمراً وماءً بارداً وظلاً وارفاً، فلمَّا تبلَّغوا بتمرات، وشربوا من الماء، قال صلوات الله وسلامه عليه: “هذا من النعيم الذي تُسألون عنه” [“تفسير ابن كثير” ج4/ص545 موجزاً].
أيٍّ نعيم هذا حتى يُسألوا عنه، ويُحاسَبوا عليه؟! بضع تمرات، وجرعة ماء تنقع الغليل، يعتبرها الرسول صلى الله عليه وسلم من النعيم الذي يسألهم ربهم عنه يوم القيامة. أليس في هذه اللفتة الكريمة من الرسول صلى الله عليه وسلم نفحة ترمي إلى طبع النفس بطابع الوازع القوي والإحساس المرهف والشعور الدقيق والتبعة الكبرى والمسؤولية الضخمة في كل تصرف تهدف إليه النفس بين حين وآخر؟
وإن المحاسبة لتثمر الشعور بالمسؤولية تجاه الله تعالى وتجاه خلقه، وتجاه النفس المكلفة بالتكاليف الشرعية من أوامر ونواهٍ. فبالمحاسبة يفهم الإنسان أنه ما وُجد عبثاً، وأنه لا بدَّ راجع إلى الله تعالى، كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله، ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة” [رواه مسلم في كتاب الزكاة عن عدي بن حاتم رضي الله عنه، والترمذي في كتاب صفة القيامة].
فينبثق من قلبه الرجوع الاختياري بالتوبة النصوح، ويترك الشواغل الفانية التي تشغله عن خالقه تعالى، ويفر إلى الله من كل شيء: {فَفِرُّوا إلى اللهِ إنِّي لكم مِنْهُ نذير مبينٌ} [الذاريات: 50].
ففرَّ مع تلك الفئة المؤمنة الصوفية في سفرهم إلى الله تعالى، مجيباً هواتف الغيب: {يا أيُّها الذينَ آمنوا اتَّقوا اللهَ وكونوا معَ الصادقينَ}
[التوبة: 119].
وإنما القوم مسافرونا لحضرة الحق وظاعنونا

فآواهم المبيت في حضرته الكبرى، وأكرمهم الجناب الأقدس بتلك العندية التي ينشدها كلُّ محب لله تعالى: {في مقعَدِ صدقٍ عندَ مليكٍ مقتدرٍ} [القمر: 55].
قال الشيخ أحمد زروق رحمه الله تعالى في قواعده: (الغفلة عن محاسبة النفس توجب غلظها فيما هي به، والتقصير في مناقشتها يدعو لوجود الرضا عنها، والتضييق عليها يوجب نفرتها، والرفق بها معين على بطالتها. فلزم دوام المحاسبة مع المناقشة، والأخذ في العمل بما قارب وصح، دون مسامحة في واضح، ولا مطالبة بخفي من حيث العمل، واعتبر في النظر تركاً وفعلاً واعتبر في قولهم: من لم يكن يومه خيراً من أمسه فهو مغبون، ومن لم يكن في زيادة فهو في نقصان، وإن الثبات في العمل زيادة فيه، ومِنْ ثَمَّ قال الجنيد رحمه الله: لو أقبل مقبل على الله سَنة ثم أعرض عنه لكان ما فاته منه أكثر مما ناله) [“قواعد التصوف” للشيخ أحمد زروق ص75].انتهى
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً

الخميس، 24 ديسمبر 2009

أسباب الحركة عند الذكر

الحركة في الذكر

بسم الله الرحمن الرحيم
قال سيدنا الإمام عبدالقادر عيسى رحمه الله :الحركة في الذكر أمر مستحسن، لأنها تنشط الجسم لعبادة الذكر وهي جائزة شرعاً بدليل ما أخرجه الإمام أحمد في مسنده والحافظ المقدسي برجال الصحيح من حديث أنس رضي الله عنه قال: (كانت الحبشة يرقصون بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقولون بكلام لهم: محمد عبد صالح، فقال صلى الله عليه وسلم: “ماذا يقولون؟” فقيل: إنهم يقولون: محمد عبد صالح، فلما رآهم في تلك الحالة لم ينكر عليهم، وأقرهم على ذلك، والمعلوم أن الأحكام الشرعية تؤخذ من قوله صلى الله عليه وسلم وفعله وتقريره، فلما أقرهم على فعلهم ولم ينكر عليهم تبين أن هذا جائز.
وفي الحديث دليل على صحة الجمع بين الاهتزاز المباح ومدحِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الاهتزاز بالذكر لا يُسمى رقصاً محرماً، بل هو جائز لأنه ينشط الجسم للذكر، ويساعد على حضور القلب مع الله تعالى؛ إذا صحت النية. فالأمور بمقاصدها، وإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى.
ولنستمع إلى الإمام علي رضي الله عنه كيف يصف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قال أبو أراكة: (صلّيتُ مع علي صلاة الفجر، فلما انفتل عن يمينه مكث كأنَّ عليه كآبة، حتى إذا كانت الشمس على حائط المسجد قيد رمح صلى ركعتين، ثم قلب يده فقال: والله لقد رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فما أرى اليوم شيئاً يشبههم، لقد كانوا يصبحون صفراً شعثاً غبراً، بين أيديهم كأمثال رُكَب المَعْزى، قد باتوا لله سجداً وقياماً، يتلون كتاب الله يتراوحون بين جباههم وأقدامهم، فإذا أصبحوا فذكروا الله مادوا [أي تحركوا] كما يميد الشجر في يوم الريح، وهملت أعينهم حتى تَنْبَلَّ - والله - ثيابُهم) [“البداية والنهاية في التاريخ” للإمام الحافظ المفسر المؤرخ إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي المتوفى 774هـ. ج8/ص6. وأخرجه أيضاً أبو نعيم في “الحلية” ج1/ص76].
ويهمنا من عبارة الإمام علي رضي الله عنه قوله: (مادوا كما يميد الشجر في يوم الريح)، فإنك تجده صريحاً في الاهتزاز، ويُبطل قولَ من يدَّعي أنه بدعة محرمة، ويثبت إباحة الحركة في الذكر مطلقاً.
على أن الرجل غير مؤاخذ حين يتحرك ويقوم ويقعد على أي نوع كان حيث إنه لم يأت بمعصية ولم يقصدها كما ذكرنا.

إلاَّ أن هناك جماعة من الدخلاء على الصوفية - نسبوا أنفسهم إليهم وهم منهم براء - شوَّهوا جمال حلقات الأذكار بما أدخلوا عليها من بدع ضالة، وأفعال منكرة، تحرمها الشريعة الغراء؛ كاستعمال آلات الطرب المحظورة، والاجتماع المقصود بالأحداث، والغناء الفاحش، فلم يَعُدْ وسيلةً عملية لتطهير القلب من أدرانه، وصلته بالله تعالى، بل صار لتسلية النفوس الغافلة، وتحقيق الأغراض الدنيئة.
ومما يُؤسَف له أن بعض أدعياء العلم قد تهجموا على حِلَقِ الذكر ولم يميزوا بين هؤلاء الدخلاء المنحرفين وبين الذاكرين السالكين المخلصين الذي يزيدهم ذكر الله رسوخاً في الإيمان، واستقامة في المعاملة، وسُموَّاً في الخلق واطمئناناً في القلب.

وهناك علماء منصفون قد ميَّزوا بين الصوفية الصادقين السائرين على قدم الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، وبين الدخلاء المارقين، وأوضحوا حكم الله في الذكر، وعلى رأسهم العلاَّمة ابن عابدين في رسالته “شفاء العليل”، فقد ندد بالدخلاء على الصوفية، واستعرض بدعهم ومنكراتهم في الذكر وحذر منهم، ومن الاجتماع بهم، ثم قال: (ولا كلام لنا مع الصُّدَّق من ساداتنا الصوفية المبرئين من كل خصلة ردية ، فقد سئل إمام الطائفتين سيدنا الجنيد: إن أقواماً يتواجدون ويتمايلون؟ فقال: دعوهم مع الله تعالى يفرحون، فإنهم قوم قطعت الطريق أكبادهم، ومزق النصب فؤادهم، وضاقوا ذرعاً فلا حرج عليهم إذا تنفسوا مداواة لحالهم، ولو ذقتَ مذاقهم عذرتهم... ثم قال: (وبمثل ما ذكره الإمام الجنيد أجاب العلاَّمة النحرير ابن كمال باشا لمَّا استفتي عن ذلك حيث قال:

ما في التواجد إن حققتَ من حرج ولا التمايل إن أخلصتَ من باس
فقمتَ تسعى على رِجْلٍ وَحُقَّ لمن دعاه مولاه أن يسعى على الراس

الرخصة فيما ذكر من الأوضاع، عند الذكر والسماع للعارفين الصارفين أوقاتهم إلى أحسن الأعمال، السالكين المالكين لضبط أنفسهم عن قبائح الأحوال، فهم لا يستمعون إلا من الإله، ولا يشتاقون إلا له، إن ذكروه ناحوا، وإن شكروه باحوا، وإن وجدوه صاحوا، وإن شهدوه استراحوا، وإن سرحوا في حضرات قربه ساحوا، إذا غلب عليهم الوجد بغلباته، وشربوا من موارد إرادته، فمنهم من طرقته طوارق الهيبة فَخَرَّ وذاب، ومنهم من برقت له بوارق اللطف فتحرك وطاب، ومنهم من طلع عليهم الحِبُّ من مطلع القرب فسكر وغاب، هذا ما عنَّ لي في الجواب، والله أعلم بالصواب). ثم قال أيضاً: (ولا كلام لنا مع من اقتدى بهم، وذاق من مشربهم، ووجد من نفسه الشوق والهيام في ذات الملك العلام، بل كلامنا مع هؤلاء العوام الفسقة اللئام...)[ مجموعة رسائل ابن عابدين - الرسالة السابعة - شفاء العليل وبل الغليل في حكم الوصية بالختمات والتهاليل للفقيه الكبير ابن عابدين ص172 - 173].

من هذا نرى أن ابن عابدين رحمه الله تعالى يبيح التواجد والحركة في الذكر، وأن الفتوى عنده الجواز، وأن النصوص المانعة التي ساقها في حاشيته المشهورة في الجزء الثالث تُحمل على ما إذا كانت في حِلَق الذكر منكرات: من آلات اللهو والغناء، والضرب بالقضيب، والاجتماع مع المرد الحسان، وإنزال المعاني على أوصافهم، والتغزل بهم، وما إلى ذلك من المخالفات.
ولم يتمسك المانعون المستندون إلى كلام ابن عابدين برأيهم؛ إلا لعدم إطلاعهم على كلامه في مجموعة الرسائل حيث فَرَّق - كما مرَّ - بين الدخلاء والصادقين، وأباح فيها التواجد للعارفين الواصلين، والمقتدين بهم من المقلدين، فراجع المصدرين يَبِنْ لك الحق.
ولا شك أن التواجد هو تكلف الوجد وإظهاره من غير أن يكون له وجد حقيقة، ولا حرج فيه إذا صحت النية كما قال العلامة ابن عابدين في حاشيته:

ما في التواجد إن حققت مِنْ حرج ولا التَّمايلِ إن أخلصت من باس

فإذا كان التواجد جائزاً شرعاً ولا حرج فيه كما نص عليه الفقهاء، فالوجد من باب أْولى. وما وَجْدُ الصوفية وتواجدهم إلا قبس مما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وها هو مفتي السادة الشافعية بمكة المكرمة العلامة الكبير أحمد زيني دحلان رحمه الله يورد في كتابه المشهور في السيرة النبوية مشهداً من إحدى حالاتهم، ويعلق عليه فيقول: (وبعد فتح خيبر قدم من الحبشة جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ومن معه من المسلمين وهم ستة عشر رجلاً فتلقى النبي صلى الله عليه وسلم جعفر وقبَّل جبهته وعانقه وقام له - وقد قام لصفوان بن أُمية لما قدم عليه، ولعدي بن حاتم رضي الله عنهما - ثم قال صلى الله عليه وسلم: “ما أدري بأيهما أفرح بفتح خيبر أم بقدوم جعفر؟” وقال صلى الله عليه وسلم لجعفر: “أشبهتَ خَلْقي وخُلُقي”، فرقص رضي الله عنه من لذة هذا الخطاب، فلم ينكر عليه صلى الله عليه وسلم رقصه، وجُعل ذلك أصلاً لرقص الصوفية عندما يجدون من لذة المواجيد في مجالس الذكر والسماع) [“السيرة النبوية والآثار المحمدية” لزيني دحلان، على هامش السيرة الحلبية ج2/ص252. والحديث رواه البخاري في صحيحه في كتاب الصلح].انتهى ما أردت ذكره من كلام سيدنا الشيخ عبدالقادر
وأقول هنا أذكر (فائدة : جاء في اتحاف الخيرة برقم 21 عند - ذكر علي وجعفر وعقيل وزيد بن حارثة رضي الله عنهمما نصه [6719]عن علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- قال: "أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - أنا وجعفر وزيد فقال لزيد: أنت أخونا ومولانا. قال: فحجل ثم قال لجعفر: أشبهت خلقي وخلقي. قال: فحجل وراءى حجل زيد ثم قال لي: أنت مني وأنا منك. قال: فحجل وراءى حجل جعفر".رواه أبو بكر بن أبي شيبة وأبو يعلى. ) انتهى قال أبو عبيد: الحجل أن يرفع رجلا ويقفز على الأخرى ...)فهذا أصل يستند إليه السادة الصوفية في بيان أحد الأدلة التي يستندنون إليها عند الحركة في الذكر.
وقال سيدنا الشيخ عبدالقادر رحمه الله تعالى :وقال العلامة الألوسي في تفسيره عند قوله تعالى: {الذينَ يذكُرونَ اللهَ قِياماً وقُعوداً وعلى جُنوبِهم} [آل عمران: 191]: (وعليه فيُحمل ما حُكي عن ابن عمر رضي الله عنهما وعروة بن الزبير وجماعة رضي الله عنهم من أنهم خرجوا يوم العيد إلى المصلى، فجعلوا يذكرون الله تعالى، فقال بعضهم: أمَا قال الله تعالى: {يذكرون الله قياماً وقعوداً}؟ فقاموا يذكرون الله تعالى على أقدامهم، على أنّ مرادهم بذلك التبرك بنوع موافقة للآية في ضمن فرد من أفراد مدلولها) [“روح المعاني” للعلامة محمود الألوسي ج4/ص140].

ولسيدي أبي مدين رضي الله عنه:
وقل للذي ينهَى عن الوجد أهلَه إذا لم تذق معنى شرابِ الهوى دعنا
إذا اهتزت الأرواحُ شوقاً إلى اللِّقا نعمْ ترقص الأشباح يا جاهلَ المعنى
أمَا تنظرُ الطيرَ المقفَّص يا فتى إذا ذكر الأوطان حنَّ إلى المغنى
يفرِّجُ بالتغريد ما بفؤاده فتضطرب الأعضاء في الحس والمعنى
كذلك أرواح المحبين يا فتى تهزْهزُها الأشواق للعالم الأسنى
أنُلزِمها بالصبر وهي مَشوقةٌ وهل يستطيع الصبر من شاهد المعنى
فيا حاديَ العشاق قم واشدُ قائماً وزَمْزم لنا باسم الحبيب وروِّحْنا


والخلاصة:
يُفهم مما سبق أن الحركة في الذكر مباحة شرعاً، هذا بالإضافة إلى أن الأمر بالذكر مطلق يشمل جميع الأحوال؛ فمن ذكر الله تعالى قاعداً أو قائماً، جالساً أو ماشياً، متحركاً أو ساكناً... فقد قام بالمطلوب ونفَّذَ الأمر الإلهي. فالذي يدَّعي تحريم الحركة في الذكر أو كراهتها هو المطالَب بالدليل، لأنه يخصص بعض الحالات المطلقة دون بعض بحكم خاص.
وعلى كلّ؛ فإن غاية المسلم في دخوله حلقات الأذكار قيامه بعبادة الذكر، وإن الحركة في ذلك ليست شرطاً، ولكنها وسيلة للنشاط في تلك العبادة وَتَشبُّهٌ بأهل الوجد إن صحت النية.

فتَشَبَّهوا إنْ لم تكونوا مثلهم إنَّ التشبهَ بالكرام فلاحُ

المجاهدة (بداية محرقة ونهاية مشرقة)بإذن الله

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه .
إن طريق المجاهدة هو من الأسباب العظيمة التي توصل إلى رضا الله تعالى وقد تكلم أئمة التصوف عن ذلك في كتاب كثيرة ومجالس عديدة وأسوق هنا مختصراً لكلام سيدنا الإمام عبدالقادر عيسى رحمه الله تعالى قال فيه:
أول مرحلة في المجاهدة عدم رضى المرء عن نفسه، وإيمانُه بوصفها الذي أخبر عنه خالقها ومبدعها: {إنَّ النفس لأمَّارةٌ بالسوء} [يوسف: 53].
وعلمه أن النفس أكبر قاطع عن الله تعالى [والقواطع عن الله تعالى أربعة: النفس، والدنيا، والشيطان، والخلق.
أما عداوة النفس والشيطان فظاهرة،
وأما الخلق فملاحظة مدحهم وذمهم تعرقل سير السالك إلى ربه،
وأما الدنيا فالاهتمام بها وانشغال القلب بتقلباتها قاطع كبير عن الله تعالى، ففي حالة الفقر تكثر هموم المرء فتشغله عن الله، وفي حال الغنى ينشغل بزينتها وزخرفها عن الله تعالى: {إنَّ الإنسانَ ليطغَى . أنْ رآهُ استغنَى} [العلق: 6 -7]. أما إذا أخرج حبها من قلبه فإنها لا تضره، كما قال شيخ الصوفية سيدي عبد القادر الجيلاني رحمه الله: (أخرج الدنيا من قلبك، وضعها في جيبك أو في يدك فإنها لا تضرك) وراجع بحث الزهد في هذا الكتاب]. كما أنها أعظم موصل إليه وذلك أن النفس حينما تكون أمَّارة بالسوء لا تتلذذ إلا بالمعاصي والمخالفات، ولكنها بعد مجاهدتها وتزكيتها تصبح راضية مرضية لا تُسَرُّ إلا بالطاعات والموافقات والاستئناس بالله تعالى.
وإذا اكتشف المسلم عيوب نفسه وصدق في طلب تهذيبها لم يعد عنده متسع من الوقت للانشغال بعيوب الناس وإضاعة العمر في تعداد أخطائهم، وإذا رأيت أحداً من الناس قد صرف وقته في إحصاء أخطاء الآخرين غافلاً عن عيوب نفسه فاعلم أنه أحمق جاهل. قال أبو مدين:
ولا تر العيب إلا فيك معتقداً عيباً بدا بَيِّناً لكنه استترا
وقال بعضهم:
لا تلم المرء على فعله وأنت منسوب إلى مثله
من ذم شيئاً أتى مثلَه فإنما دل على جهله
فإذا عرف المسلم ذلك أقبل على نفسه يفطمها عن شهواتها المنحرفة وعاداتها الناقصة، ويلزمها بتطبيق الطاعات والقربات.
ويتدرج في المجاهدة على حسب سيره، فهو في بادىء الأمر يتخلى عن المعاصي التي تتعلق بجوارحه السبعة، وهي:
اللسان والأذنان والعينان واليدان والرجلان والبطن والفرج. لكل جارحة من الجوارح السبعة معاصٍ تتعلق بها، فمن معاصي اللسان: الغيبةُ والنميمة والكذب والفحش. ومن معاصي الأذنين: سماعُ الغيبة والنميمة والأغاني الفاحشة وآلات اللهو. ومن معاصي العينين: النظرُ للنساء الأجنبيات وعورات الرجال. ومن معاصي اليدين: إيذاءُ المسلمين وقتلهم، وأخذ أموالهم بالباطل، ومصافحة النساء الأجنبيات. ومن معاصي الرجلين: المشيُ إلى محلات المنكرات والفجور. ومن معاصي البطن: أكل المال الحرام، وأكل لحم الخنزير، وشرب الخمور. ومن معاصي الفرج: الزنا واللواطة...، ثم يحلي هذه الجوارح السبعة بالطاعات المناسبة لكل منها. فمن طاعات اللسان: قراءة القرآن الكريم، وذكر الله تعالى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ومن طاعات الأذنين: سماع القرآن الكريم والأحاديث نبوية والنصائح والمواعظ. ومن طاعات العينين: النظر إلى وجوه العلماء والصالحين، والنظر إلى الكعبة المشرفة، والنظر التأملي لآيات الله في الكون. ومن طاعات اليدين: مصافحة المؤمنين، وإعطاء الصدقات. ومن طاعات الرجلين: المشي إلى المساجد وإلى مجالس العلم، وعيادة المريض، والإصلاح بين الناس. ومن طاعات البطن: تناول الطعام الحلال بنية التقوِّي على طاعة الله تعالى. ومن طاعات الفرج: النكاح المشروع بغية الإحصان وتكثير النسل.. فهذه الجوارح السبعة منافذ على القلب إما أن تصب عليه ظلمات المعاصي فتكدره وتمرضه، وإما أن تُدخل عليه أنوار الطاعات فتشفيه وتنوره.
ثم ينتقل في المجاهدة إلى الصفات الباطنة فيبدل صفاته الناقصة كالكبر والرياء والغضب... بصفات كاملة كالتواضع والإخلاص والحِلم.
وبما أن طريق المجاهدة وعر المسالك متشعب الجوانب، يصعب على السالك أن يَلِجَهُ منفرداً كان من المفيد عملياً صحبة مرشد خبير بعيوبها، عالم بطرق معالجتها ومجاهدتها، يستمد المريد من صحبته خبرة عملية بأساليب تزكية نفسه، كما يكتسب من روحانيته نفحات قدسية تدفع المريد إلى تكميل نفسه وشخصيته، وترفعه فوق مستوى النقائص والمنكرات.
فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم المرشد الأول والمزكي الأعظم الذي ربَّى أصحابه الكرام وزكَّى نفوسهم بقاله وحاله، كما وصفه الله تعالى بقوله: {هو الذي بعث في الأميين رسولاً مِنْهُم يتلو عليهم آياتِه ويُزكِّيهم ويُعلِّمُهم الكِتاب والحِكمَةَ وإن كانوا من قَبْلُ لَفي ضلالٍ مُبينٍ} [الجمعة: 2]. من هنا نجد أن التزكية شيء وتعليم الكتاب والحكمة شيء آخر، لذا قال الله تعالى: {ويزكيِّهمْ ويعلِّمهمُ الكتابَ والحكمةَ} ففرقٌ كبير بين علم التزكية وحالة التزكية، كما يلاحظ الفرق الواضح بين علم الصحة وحالة الصحة، إذ قد يكون الطبيب الماهر الذي عنده علم الصحة فاقداً حالة الصحة ومصاباً بالأمراض والعلل الكثيرة. وكذلك الفرق ظاهر بين علم الزهد وحالة الزهد، كالمسلم الذي عنده علم واسع بالآيات والأحاديث والشواهد المتعلقة بالزهد ولكنه يفقد حالة الزهد ويتصف بالطمع والشره والتكالب على الدنيا الفانية.
والذي يحقق النفع للمريد هو استقامته على صحبة مرشده واستسلامه له كاستسلام المريض للطبيب، فإذا ما أدخل الشيطان على قلب المريد داء الغرور والاكتفاء الذاتي فأُعجب بنفسه واستغنى عن ملازمة شيخه باء بالفشل ووقف وهو يظن أنه سائر، وقُطِعَ وهو يظن أنه موصول.

قال أبو عثمان المغربي رحمه الله: (من ظن أنه يُفتح له بهده الطريقة أو يكشف له عن شيء منها لا بلزوم المجاهدة فهو في غلط) ["الرسالة القشيرية" ص48 - 50].

وقال أبو عثمان المغربي رحمه الله: (لا يرى أحد عيب نفسه وهو مستحسن من نفسه شيئاً، وإنما يرى عيوب نفسه من يتهمها في جميع الأحوال) ["الرسالة القشيرية" ص48 - 50].
وقال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري رحمه الله تعالى: (إنَّ نجاة النفس أنْ يخالف العبدُ هواها، ويحملَها على ما طلب منها ربُّها) ["تعليقات على الرسالة القشيرية" للشيخ زكريا الأنصاري].
وقال الإمام البركوي رحمه الله تعالى: (المجاهدة: وهي فطم النفس وحملها على خلاف هواها في عموم الأوقات، فهي بضاعة العُبَّاد ورأس مال الزهاد، ومدار صلاح النفوس وتذليلها، وملاك تقوية الأرواح وتصفيتها ووصولها إلى حضرة ذي الجلال والإكرام. فعليك أيها السالك بالتشمير في منع النفس عن الهوى وحملها على المجاهدة إن شئـت من الله الهدى، قـال الله تعالى: {والذين جاهدوا فينا لَنَهدِيَنَّهُم سُبُلَنا} [العنكبوت: 69]. وقال أيضاً:{ومَنْ جاهَدَ فإنَّما يُجاهد لنفسِهِ} [العنكبوت: 6])["الحديقة الندية شرح الطريقة المحمدية" ج1/ص455].

وقال ابن عجيبة رحمه الله تعالى: (لا بد للمريد في أول دخوله الطريق من مجاهدة ومكابدة وصدق وتصديق، وهي مُظهِر ومجلاة للنهايات، فمن أشرقت بدايته أشرقت نهايته، فمن رأيناه جادَّاً في طلب الحق باذلاً نفسه وفلسه وروحه وعزه وجاهه ابتغاء الوصول إلى التحقق بالعبودية والقيام بوظائف الربوبية ؛ علمنا إشراق نهايته بالوصول إلى محبوبه، وإذا رأيناه مقصِّراً علمنا قصوره عما هنالك) ["إيقاظ الهمم في شرح الحكم" ج2/ص370]..
فالمجاهدة إذاً شرط أساسي لكل سالك في جميع مراحل سيره، ولكنها تتغير بحسب ترقي المريد في مدارج السمو، ومثاله في ذلك الطالب، يكون في مرحلة الابتدائي، ثم الإعدادي ثم الثانوي ثم الجامعي... وفي كل هذه المراحل يعتبر طالباً، ولكن هناك فرق كبير بين الطالب الابتدائي والطالب الجامعي. وكذلك الفرق شاسع بين كون نفسه أمارة بالسوء تميل إلى الفواحش، وبين كونها مطمئنةً راجعة إلى ربها راضية مرضية.

والخلاصة:

إن المجاهدة أصل من أُصول طريق الصوفية، وقد قالوا: من حقق الأصول نال الوصول، ومن ترك الأصول حُرم الوصول.
وقالوا أيضاً: مَنْ لم تكن له بداية محرقة "بالمجاهدات" لم تكن له نهاية مشرقة. والبدايات تدل على النهايات.
انتهى باختصار

السبت، 12 ديسمبر 2009

حكم الجهر بالذكروالاجتماع له

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبيه الهادي ألأمين وعلى آله وصحبه أجمعين .
الجهر بالذكر من الأمور المستحبة شرعاً ويدل على ذلك أدلة كثيرة ذكر كثيراً منها الإمام السيوطي رحمه الله تعالى في رسالة خاصة بالمسألة أنقلها للفائدة .وهي رسالة :
نتيجة الفكر في الجهر بالذكر
قال فيها:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى

سألتَ - أكرمك الله - عمَّا اعتاده الصوفية من عَقْد حلق الذكر، والجهر به في المساجد، ورفع الصوت بالتهليل، وهل ذلك مكروه أم لا ؟

الجـواب:
إنَّه لا كراهة في شيء من ذلك، وقد وردت أحاديث تقتضي استحباب الجهر بالذكر، وأحاديث تقتضي استحباب الإسرار به، والجمعُ بينهما أنَّ ذلك يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص، كما جَمَعَ النَّوويُّ بمثل ذلك بين الأحاديث الواردة باستحباب الجهر بقراءة القرآن والأحاديث الواردة باستحباب الإسرار بها، وهاأنا أبين ذلك فصلاً فصلاً .

( ذكر الأحاديث الدالة على استحباب الجهر بالذكر تصريحاً أو التزاماً )

الحديث الأول:
أخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : "يقول الله : أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني ؛ فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه "، والذكر في الملأ لا يكون إلا عن جَهْر.

الحديث الثاني:
أخرج البزار، والحاكم في المستدرك وصححه، عن جابر رضي الله عنه قال : خرج علينا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : " يا أيها النَّاس، إنَّ لله سرايا من الملائكة تحلّ وتقف على مجالس الذكر في الأرض، فارتعُوا في رياض الجنَّة، قالوا : وأين رياض الجنَّة ؟ قال : مجالس الذكر، فاغدوا ورُوحوا في ذكر " .

الحديث الثالث:
أخرج مسلم، والحاكم - واللفظ له - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال النبي عليه الصلاة والسلام : " إنَّ لله ملائكة سَيَّارة وفضلاء يلتمسون مجالس الذكر في الأرض، فإذا أتوا على مجلس ذكر حَفَّ بعضُهم بعضاً بأجنحتهم إلى السماء، فيقول الله : من أين جئتم ؟ فيقولون : جئنا من عند عبادك يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويهللونك ويسألونك ويستجيرونك، فيقول : ما يسألون ؟ وهو أعلم، فيقولون : يسألونك الجنَّة، فيقول : وهل رأوها ؟ فيقولون : لا يا رب، فيقول : فكيف لو رأوها ؟!، ثم يقول : ومم يستجيروني ؟، وهو أعلم بهم، فيقولون : من النار، فيقول : وهل رأوها، فيقولون : لا، فيقول : فكيف لو رأوها ؟!، ثم يقول : اشْهَدُوا أنِّي قد غفرتُ لهم، وأعطيتهم ما سألوني، وأجَرْتهم مما استجاروني، فيقولون : ربنا إنَّ فيهم عبداً خطاء جلس إليهم وليس منهم، فيقول : وهو أيضاً، قد غفرت له، هم القوم لا يَشْقَى بهم جليسهم " .

الحديث الرابع:
أخرج مسلم، والترمذي، عن أبي هريرة ، وأبي سعيد الخدري - رضي الله تعالى عنهما- قالا : قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : " ما من قَوْم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده " .

الحديث الخامس:
أخرج مسلم والترمذي عن معاوية أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم خَرَجَ على حلقة من أصحابه فقال : " ما يجلسكم ؟ "، قالوا : جلسنا نذكر الله ونحمده، فقال : " إنه أتاني جبريل؛ فأخبرني أن الله يباهي بكم الملائكة "

الحديث السادس:
أخرج الحاكم وصححه، والبيهقي في شُعَب الإيمان، عن أبي سعيد الخُدْري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : " أكثروا ذكر الله حتَّى يقولوا مجنون " .

الحديث السابع:
أخرج البيهقي في شعب الإيمان، عن أبي الجوزاء رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : " أكثروا ذكر الله حتى يقول المنافقون إنكم مُرَاءُون " مُرْسَل .ووجه الدلالة من هذا والذي قبله أنَّ هذا إنما يقال عند الجهر دون الإسرار .

الحديث الثامن:
أخرج البيهقي عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : " إذا مررتم برياض الجنة فارتَعُوا "، قالوا : يا رسول الله، وما رياض الجنة ؟، قال : " حِلَقُ الذكر " .

الحديث التاسع:
أخرج بقيُّ بن مَخْلد، عن عبد الله بن عمرو، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم مرَّ بمجلسين، أحد المجلسيْن يَدْعُون الله ويرغبون إليه، والآخرُ يعلمون العلم، فقال : " كلا المجلسَيْن خير، وأحدهما أفضل من الآخر " .

الحديث العاشر:
أخرج البيهقيُّ، عن عبد الله بن مُغَفَّل رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " ما من قوم اجْتَمَعُوا يذكُرُونَ الله إلا ناداهُمْ مُنَادٍ من السماء : قُومُوا مغفورًا لكم، قد بدلت سيئاتكم حَسَنات " .

الحديث الحادي عشر:
أخرج البيهقي، عن أبي سعيد الخُدْري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "يقول الربُّ تعالى يوم القيامة : سَيَعْلمُ أهْلُ الجمع اليوم مَنْ أهل الكرم "، فقيل : ومَنْ أهل الكرم يا رسول الله ؟ قال : " مجالس الذكر في المساجد " .

الحديث الثاني عشر :
أخرج البيهقي، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : إنَّ الجبل لَيُنَادي الجبل باسمه : يا فلان، هل مرَّ بك اليوم لله ذاكر ؟ فإن قال نعم استبشر، ثم قرأ عبد الله: {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ } ... الآية [مريم : 89، 90]، وقال : أيسمعون الزور ولا يسمعون الخير .
الحديث الثالث عشر:أخرج ابن جرير في تفسيره، عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما في قوله : { فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ } [الدخان : 29] قال : إنَّ المؤمن إذا مات بكى عليه من الأرض الموضع الذي كان يصلي فيه ويذكر الله فيه .وأخرج ابن أبي الدنيا عن أبي عبيد قال : إنَّ المؤمن إذا مات نَادَتْ بِقَاعُ الأرض : عبدُ الله المؤمن مات، فتبكي الأرض والسماء، فيقول الرحمن : ما يبكيكما على عبدي ؟ فيقولون : ربَّنَا لم يمش في ناحية منَّا قط إلا وهو يذكرك .وجه الدلالة من ذلك أنَّ سماع الجبال والأرض للذكر لا يكون إلا عن الجهر به .
الحديث الرابع عشر:أخرج البزار، والبيهقي، بسند صحيح، عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : " قال الله تعالى : عبدي إذا ذَكَرْتَنِي خالياً ذَكَرْتُكَ خالياً، وإنْ ذَكَرْتَنِي في مَلأ ذَكَرْتُكَ في مَلأ خير منهم وأكثر " .
الحديث الخامس عشر:أخرج البيهقيُّ، عن زيد بن أسلم قال: قال ابنُ الأدرع : " انطَلَقْتُ مع النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم ليلةً، فمرَّ برجُل في المسجد يرفع صوته، قلت : يا رسول الله، عسى أن يكون هذا مرائيا، قال : "لا، ولكنَّه أواه " .
وأخرج البيهقيُّ، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه : " أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لرجُل يقال له ذو البجادين : "إنَّه أوَّاه، وذلك أنَّه كان يذكر الله " .
وأخرج البيهقيُّ، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه : " أنَّ رجلاً كان يرفع صوته بالذكر، فقال رجلٌ : لو أنَّ هذا خَفَضَ من صوته، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم : " دَعْهُ فإنَّه أوَّاه " .
الحديث السادس عشر:أخرج الحاكم، عن شدَّاد بن أوس قال : " إنَّا لعند النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ قال : ارفعوا أيديكم فقولوا : لا إله إلا الله، ففعلنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اللهم إنَّك بعثتني بهذه الكلمة، وأمرتني بها، ووعدتني عليها الجنّة، إنك لا تخلف الميعاد، ثم قال : أبشروا، فإنَّ الله قد غفر لكم" .الحديث السابع عشر:أخرج البزار، عن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : " إنَّ لله سَيَّارة من الملائكة يطلبون حِلَقَ الذِّكْر، فإذا أتَوا عليهم حَفُّوا بهم، فيقول الله تعالى : غَشُّوهُمْ برحمتي، فهم الجلساء لا يشقَى بهم جليسهم " .
الحديث الثامن عشر:أخرج الطبراني، وابن جرير، عن عبد الرحمن بن سهل بن حنيف قال : نزَلَتْ على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو في بعض أبياته: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ } [الكهف : 28]، فخرج يلتمسهم، فوجد قوماً يذكرون الله تعالى، منهم ثائر الرأس، وجاف الجلد، وذو الثوب الواحد، فلمَّا رآهم جلس معهم، وقال : " الحمدُ لله الذي جعل في أمتي مَنْ أمرني أن أصبر نفسي معهم " .
الحديث التاسع عشر:أخرج الإمام أحمد في الزهد، عن ثابت قال : كان سلمان في عصابة يذكرون الله، فمرَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكفوا، فقال : " ما كنتم تقولون؟ " قلنا: نذكر الله. قال : " إني رأيت الرحمة تنزل عليكم ؛ فأحببت أن أشارككم فيها "، ثم قال : " الحمد لله الذي جعل في أمتي من أُمرت أن أصبر نفسي معهم " .
الحديث العشرون:أخرج الأصبهاني في الترغيب، عن أبي رزين العقيلي : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال له : " ألا أدلك على ملاك الأمر الذي تصيب به خيري الدنيا والآخرة؟ " قال : بلى، قال : " عليك بمجالس الذكر، وإذا خلوت فحرك لسانك بذكر الله " .
الحديث الحادي والعشرون:أخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي والأصبهاني، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : " لأن أجلس مع قوم يذكرون الله بعد صلاة الصبح إلى أن تطلع الشمس أحب إلي مما طلعت عليه الشمس، ولأن أجلس مع قوم يذكرون الله بعد العصر إلى أن تغيب الشمس أحب إلي من الدنيا وما فيها".
الحديث الثاني والعشرون:أخرج الشيخان عن ابن عباس قال : إن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال ابن عباس : كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته .
الحديث الثالث والعشرون:أخرج الحاكم، عن عمر بن الخطاب، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : " من دخل السوق فقال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، كتب الله له ألف ألف حسنة، ومحا عنه ألف ألف سيئة، ورفع له ألف ألف درجة، وبنى له بيتاً في الجنة " .وفي بعض طرقه : " فنادى " .الحديث الرابع والعشرون :أخــرج أحمـــد، وأبو داود، والترمذي وصححه، والنسائي، وابن ماجه، عن السائب أن رسول الله صلى الله عليه ةآله وسلم قال : " جاءني جبريل فقال : مُرْ أصحابك يرفعوا أصواتهم بالتكبير " .
الحديث الخامس والعشرون:أخرج المروزي في كتاب العيدين عن مجاهد : أن عبد الله بن عمر وأبا هريرة كانا يأتيان السوق أيام العشر فيكبران، لا يأتيان السوق إلا لذلك .وأخرج أيضاً عن عبيد بن عمير قال : كان عمر يكبر في قبته، فيكبر أهل المسجد، فيكبر أهل السوق، حتى ترتج مني تكبيرا .وأخرج أيضاً عن ميمون بن مهران قال : أدركت الناس وإنهم ليكبرون في العشر حتى كنت أشبهها بالأمواج من كثرتها .

(فصــــل)إذا تأملت ما أوردنا من الأحاديث عرفت من مجموعها أنه لا كراهة البتة في الجهر بالذكر، بل فيها ما يدل على استحبابه، إما صريحاً أو التزاماً كما أشرنا إليه .وأما معارضته بحديث " خير الذكر الخفي " فهو نظير معارضة أحاديث الجهر بالقرآن بحديث: "المسر بالقرآن كالمسر بالصدقة "، وقد جمع النووي بينهما بأن الإخفاء أفضل حيث خاف الرياء أو تأذى به مصلون أو نيام، والجهر أفضل في غير ذلك، لأن العمل فيه أكثر، ولأن فائدته تتعدى إلى السامعين، ولأنه يوقظ قلب القارئ، ويجمع همه إلى الفكر، ويصرف سمعه إليه، ويطرد النوم، ويزيد في النشاط .وقال بعضهم : يستحب الجهر ببعض القراءة والإسرار ببعضها، لأن المسر قد يمل فيأنس بالجهر، والجاهر قد يكل فيستريح بالإسرار . انتهى وكذلك قول في الذكر على هذا التفصيل، وبه يحصل الجمع بين الأحاديث .فإن قلت : قال الله تعالى : { وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ } [الأعراف: 25] .قلت : الجواب عن هذه الآية من ثلاثة أوجه :الأول : أنها مكية، كآية الإسراء {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا } [الإسراء : 110]، وقد نزلت حين كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجهر بالقرآن فيسمعه المشركون فيسبون القرآن ومن أنزله، فأمر بترك الجهر سداً للذريعة، كما نهى عن سب الأصنام لذلك في قوله تعالى : {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108]، وقد زال هذا المعنى، وأشار إلى ذلك ابن كثير في تفسيره .الثاني : أن جماعة من المفسرين، منهم عبد الرحمن بن زيد بن أسلم شيخ مالك وابن جرير، حملوا الآية على الذاكر حال قراءة القرآن، وإنه أمر له بالذكر على هذه الصفة تعظيماً للقرآن أن ترفع عنده أصوات، ويقويه اتصالها بقوله : {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ} [الأعراف: 204] .قلت : وكأنه لما أمر بالإنصات خشي من ذلك الإخلاد إلى البطالة، فنبه على أنه وإن كان مأموراً بالسكوت باللسان إلا أن تكليف الذكر بالقلب باق حتى لا يغفل عن ذكر الله، ولذا ختم الآية بقوله : {ِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف: 205].الثالث: ما ذكره الصوفية، أن الأمر خاص بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم الكامل المكمل، وأما غيره ممن هو محل الوساوس والخواطر الرديئة فمأمور بالجهر، لأنه أشد تأثيراً في دفعها .قلت : ويؤيده من الحديث ما أخرجه البزار، عن معاذ بن جبل قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : " من صلى منكم بالليل فليجهر بقراءته، فإن الملائكة تصلي بصلاته وتسمع لقراءته، وإن مؤمني الجن الذين يكونون في الهواء وجيرانه معه في مسكنه يصلون بصلاته ويستمعون قراءته، وإنه ينطرد بجهره بقراءته عن داره وعن الدور التي حوله فساق الجن ومردة الشياطين " .فإن قلت : فقد قال تعالى : {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55]، وقد فسر الاعتداء بالجهر في الدعاء . قلت : الجواب من وجهين :أحدهما: أن الراجح في تفسيره أنه تجاوز المأمور به أو اختراع دعوة لا أصل لها في الشرع، ويؤيده ما أخـرجه ابن ماجه، والحاكم في مسـتدركه وصححه، عن أبي نعامة رضي الله عنه، أن عبد الله بن مغفل سمع ابنه يقول : اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة، فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: " سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الدعاء ".الثاني: على تقدير التسليم فالآية في الدعاء لا في الذكر، والدعاء بخصوصه الأفضل فيه الإسرار، لأنه أقرب إلى الإجابة، ولذا قال تعالى : {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيًّا} [مريم : 3]، ومن ثم استحب الإسرار بالاستعاذة في الصلاة اتفاقاً، لأنها دعاء .فإن قلت : فقد نقل عن ابن مسعود أنه رأى قوماً يهللون برفع الصوت في المسجد، فقال : ما أراكم إلا مبتدعين، حتى أخرجهم من المسجد .قلت: هذا الأثر عن ابن مسعود يحتاج إلى بيان سنده، ومن أخرجه من الأئمة الحفاظ في كتبهم، وعلى تقدير ثبوته فهو معارض بالأحاديث الكثيرة الثابتة المتقدمة، وهي مقدمة عليه عند التعارض، ثم رأيت ما يقتضي إنكار ذلك عن ابن مسعود، قال الإمام أحمد بن حنبل في كتاب الزهد : ثنا حسين بن محمد، ثنا المسعودي، عن عامر بن شقيق، عن أبي وائل قال : هؤلاء الذين يزعمون أن عبد الله كان ينهى عن الذكر، ما جالست عبد الله مجلسًا قط إلا ذكر الله فيه .
وأخرج أحمد في الزهد، عن ثابت البناني قال : " إن أهل ذكر الله ليجلسون إلى ذكر الله وإن عليهم من الآثام أمثال الجبال، وإنهم ليقومون من ذكر الله تعالى ما عليهم منها شيء ".انتهى من رسالة الإمام السيوطي .
فائدة :قرأت في كتاب نصب الراية للإمام الزيلعي في الجنائز ما نصه(أخرج أبو داود عن جابر ، قال : { رأى ناس في المقبرة نارا ، فأتوها ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبر ، وإذا هو
يقول : ناولوني صاحبكم ، وإذا هو الرجل الذي كان يرفع صوته بالذكر } .انتهى ورواه الحاكم ، وصححه ، قال النووي : وسنده على شرط الصحيحين. انتهى كلامه رحمه الله تعالى

الخميس، 3 ديسمبر 2009

تهذيب واختصار لشرح الإمام زروق الفاسي على حزب البحر

بسم الله الرحمن الرحيم
تهذيب واختصار شرح حزب البحر .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ،والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد :
فهذا تهذيب واختصار لشرح سيدنا الإمام زروق الفاسي المالكي رحمه الله تعالى لحزب البحر لسيدنا الإمام الشاذلي رحمه الله تعالى اختصرته مع التهذيب وبعض زيادات الإيضاح لتعم به الفائدة ،والله الموفق لا رب سواه وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
الشرح والتحليل :
قال سيدنا الإمام الشاذلي رضي الله عنه ( اللهم يا علي , يا عظيم , يا حليم ، يا عليم , أنت ربي , وعلمك حسبي , فنعم الرب ربي , ونعم الحسب حسبي , تنصر من تشاء وأنت العزيز الرحيم)
افتتح الإمام الحزب بهذه الجملة لأنها تشعر بعظمة الربوبية , وذلة العبودية , والاكتفاء بعلمه ـ عز وجل ـ , والرجوع إليه بكل حال , والتفويض له في الأمر سواء كان موافقاً للغرض الذي يريده المخلوق أو مخالفاً له , مع الثناء عليه بكل بكمال الوصف الذاتي أولاً[كالعلم والعظمة ] والفعلي أخراً [كالنصر ] , لأن كمال التوجه إنما يكون بشعور المتوجه بعظمة الربوبية , وذلة العبودية ،والاكتفاء بعلمه تعالى , مع حسن الظن به , والتفويض إليه في الإجابة والعطاء،لأن هذا من آداب الدعاء .
ثم الذي تضمنته الجملة من الأسماء عشرة , سبعة ظاهرة , وثلاثة باطنة - اي تفهم فهما ولم يصرح بها تصريحا كالسبعة الظاهرة - .
فأما السبعة الظاهرة التي صرح بذكرها في الدعاء فهي اسمه : العلي , العظيم , الحليم , العليم , الرب , العزيز , الرحيم .
واما الثلاثة الباطنة التي تفهم من دعاءه ولم يصرح بألفاظهافهي اسمه : الكافي , النصير , الفعال لما يريد . [فيفهم الكافي من قوله فنعم الحسب حسبي ،ويفهم النصير من قوله تنصر ،ويفهم الفعال لمايريد من قوله من تشاء، فهو فعال لما يشاء كما قال تعالى في سورة البروج ((فعّال لمايريد )) ]
معانيها :فالعلي:هوالذي يصغرعندذكروصفه كل شيء سواه.
والعظيم :هو الذي لا نسبة لأحد معه في علو شأنه , وجلالة قدره , ذاتاً , وصفة , واسماء ، وافعالاً .
ثم هو العلي في عظمته فوق كل عظمة لغيره , والعظيم في علوه عن كل علو لا يليق بذاته .
والحليم : هو الذي لا يدعوه الغضب لتعجيل العقوبة على من عصاه , فيمهل العاصي وإن كان لا يهمله , ثم إذا ترك العقوبة فهو غفور رحيم .
والعليم : هو المحيط حلمه بالكائنات , وغيرها , إحاطة لا يدخلها قصور , ولا شرط , فهو يعلم ذنوب عباده ولايعاجلهم بالعقوبة حلماً منه .
وكل ذلك من علو شأنه تعالى في ذاته , وصفاته , وأفعاله , إذ لا أعظم من حلم مع علم , ولا أقوى من عظمة في علو شأن .
وقد قيل إن هذه الجملة هي اسم الله الأعظم , ورجحه ابن عبد البر , وهو مقتضى الأصل في الأولين , ومرجع الفروع في الآخرين .
وقيل لبعض الناس في المنام : كل اسم سرى معناه في الأسماء فهو الأعظم , وذلك في الأسماء الحسنى بسبعة او ثمانية منها العظيم , وليس منها الرحمن . قلت : وعلى ذلك الأحاديث , إذ لا يوجد ما جاء فيه أنه الاسم الأعظم إلا كذلك , مع اختلاف الألفاظ وتعدد الأسماء والأوصاف , مرة بالبسط والجمع كاسمه (الله ), ومرة بالإفراد والتركيب ,كقول (الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم ) .
فاسمه تعالى ( العلي العظيم ) سار في اسمه ( العليم ) و ( الحليم ) لأنه علا في حلمه وعلمه , وعظيم في ذلك كله , ولاجل سريانها في كل معنى تعلق بالذات والصفات والأفعال , جعلا خاتمة آية الكرسي [وهو العلي العظيم] التي افتتحها بأسماء الذات [الله ،الحي ،القيوم ], ثم جوامع الصفات , ثم ما يجري في الأفعال وتجري به , فافهم . ثم من علم أنه العلي العظيم لزم التعظيم والإجلال قلبه , وانطبعت به روحه , وانبسط به سره , فلم يبق له عن نفسه إخبار , ولا يقر له مع غير الله قرار , ومن علم أنه عليم , حليم تعلق به , راجياً إحسانه , ومحسنا الظن به في جميع الأحوال فلم يبقى للبحر ولا لغيره في عينه أي نسبة , شغفاً بمولاه , وفناء فيه دون ما سواه ،فلا أبالي بغيره , ولا أتوجه لسواه , ولا أرجو النفع وأخشى الضر من غيره .[فهو المانع المعطي ،المعز المذل]
والرب : هوالمالك الذي يرعى عباده بإحسانه فلا ملك غيره , ولا مدبر سواه . فكلمة الشيخ - أنت ربي ـ هي برآة من التعلق بسواه .
وقول الشيخ : (علمك حسبي) اكتفاء بعلم الله , ومن لازم ذلك التفويض إليه عزوجل.
ومعنى (حسبي ) : أي يكفيني فيما أنا فيه .
أنواع التوجه إلى الله بالدعاء
واعلم أن التوجهات عند الاحتياج ثلاثة :
أولها : التوجه بالاستسلام , وذلك عند تعذر الأسباب كما تقدم .
الثاني : التوجه بالسؤال والطلب , وذلك عند انشراح القلب , وجريانه بالمعتاد , وموقف تذكر النفوس بالافتقار , حيث غفلتها عن التوحيد والاضطرار , أو يكون انبساط تعليم أو تذكير أو نحوه .
الثالث : التوجه بالتفويض , وذلك حين يغلب حسن الظن والاكتفاء بعلم الله بحاله , وبتحقيق التوحيد , والاشتغال بالذكر , كقول إبراهيم عليه السلام( والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين ) , وقول موسى عليه السلام ( رب أني لما أنزلت ألي من خير فقير ) , وقول نبينا صلى الله عليه وسلم :( لا غنى لي عن عافيتك , عافيتك أوسع لي ) إلى غير ذلك .
أذكر حاجتي أم قد كفاني ## حياؤك، إن شيمتك الحياء
إذا أثنى عليك المرء يوما ## كفاه من تعرضه الثناء
وقول الشيخ رضي الله عنه ( فنعم الرب ربي .ونعم الحسب حسبي ) : أتى به الشيخ للاستشعار بعظيم الثناء , حتى تسكن النفس له تعالى مما يريد طلبه والتوجه فيه , لشعورها بالعظمة فيما هي به , وإلا فهي جملة متحققة , اذ هو نعم المولى ونعم النصير , ومن كان كذلك لا يخذل من تعلق به قال تعالى (( ومن يتوكل على الله فهوحسبه)) , آي كافيه , وواقيه , وناصره .
وقدأخبر الله سبحانه وتعالى عن قوم قائلا (( الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله )) . فجعل خاصية هذا الذكر لمن قاله بإخلاص ؛جريان النعمة والفضل , وصرف السوء , وحصول التوفيق , ثم عرض بالزيادة على ذلك إذ قال تعالى (( والله ذو فضل عظيم )) .
وقول الشيخ ( تنصر من تشاء )) : هو موقف التفويض بالرجوع إلى أنه يفعل ما يشاء , فلا ينازع في حكمه , ولا يكون إلا ما يريد , لأنه العزيز , أي الغالب الذي لا يُغلب , والقادر الذي لا يرد أمره , فلا يسع إلا الاستسلام له , والرحيم الذي يرحم عباده بإيصال إمداده من نصر وغيره , بظهور العزة في المنصور عليهم , وظهور الرحمة في المنصورين، فرحم هؤلاء بعين ما به نصر على هؤلاء , قال تعالى ( يعذب من يشاء ويرحم من يشاء واليه تقلبون )) . وبالجملة فالشيخ رضي الله عنه قد أتي في هذه الجملة بجوامع التوحيد , وينابيع الإيمان , وخالص الحقيقة , على بساط تعظيم الربوبية , وافتقار العبودية .فأشعر باتساع الرحمة في عين الجلال , وبالجلال الواسع في عين الرحمة .
ثم يسأل الشيخ مولاه ـ عز وجل ـ العصمة التي هي منع الوصول إلى الذنب بعد القدرة على وجه لا يمكن تخلفه , لا إيجابه من الله , وإن كان جائزاً في أصله .
ثم قال الشيخ رضي الله عنه ( نسألك العصمة في الحركات , والسكنات , والكلمات , والإرادات ، والخطرات , من الظنون , والشكوك , والأوهام الساترة للقلوب عن مطالعة الغيوب )
سئل العصمة من أي شيء يسبب الحجاب عن مقام الإحسان ، لأن الحجاب أصل كل بلية , كما أن العصمة أصل كل وقاية . ثم أن العصمة تقع في نفس الأمر لمن خصه الله بها من نبي , أو ولي، أو غيرهما عموما , إلا أنها واجبة للأنبياء فلا يصح تخلفها عنهم , ولا دعواها من غيرهم، لجواز النقيض عليهم , وإنما يصح وصف غيرهم بالحفظ الذي هو انتفاء النقيض مع إمكان الوقوع فيه , فالإنبياء معصومون , والأولياء محفظون في حكم الظاهر. فقول الشيخ رضي الله عنه - نسألك العصمة - نريد أن نطلب منك أن تمنعنا من الذنوب بالستر عنها حتى لا نعرف طريقها , ولا تخطر لنا على بال , ولاتنزل بنا في حال من الأحوال , فتعصمنا في الحركات , التي هي التقلبات يميناً وشمالاً , وخلفاً وإماماً , والسكنات هي : الثبات في محل واحد , دون تقلب , وجمعها كالحركات اعتبارا بتعددها في الحالات .
والكلمات , والحركات التي هي حركات اللسان , والقلب , كالنطق بالحروف , والأصوات .
والارادات : التي هي الميل إلي الأفعال , والأقوال بحركات القلب في الاختيار . والخطرات : التي هي حركات الضمائر في التقلبات , أولها الهاجس , وهو غير مأخوذ به , وآخرها العزم والصحيح المؤاخذة به , وفيما بينهما اختلاف . وهذه الخمسة هي مجاري الحسنات والسيئات , والذي يطلب العصمة منه فيها إنما هو الظنون , والشكوك , والأوهام الساترة للقلوب عن مطالعة الغيوب , غيوب الأسرار العرفانية , والأسرار الربانية , والحقائق الإيمانية , التي من حجب عنها وقع في الغموم والهموم , كما أشار إليه سيدي ابن عطاء الله في حكمه بقوله :ما تجده القلوب من الهموم والأحزان فلأجل ما منعت من وجود العيان.[ والعيان هو أعلى مقامات الإحسان فمن كان نظره إلى مقام المشاهدة بأن يعبد الله كأنه يراه لم يبق له هم ولا غم]
ثم قوله رضي الله عنه ( الساترة ) : إلى آخره وصف للظنون والشكوك والأوهام , فهي تارة تكون ساترة , وتارة لا تكون ساترة , وقد استعاذ من هذه لاعتراضها , وترك الأخرى لأنها موافقة للحق , أو غير ضارة فيه . وقد ذكر الشيخ رضي الله عنه في هذه الجملة جميع الحركات النفسية وما فيها من النقص , فهو قد أتى فيها بتعريف النفس ونقصها ، كما أتى في التي قبلها بذكر الرب تعالى بكماله , وهذا هو العلم النافع , والحقيقة التامة , فقد سئل الجنيد رضي الله عنه عن العلم النافع , فقال : هو أن تعرف ربك , ولا تعدو قدرك . وعليه مدار كلام الشيخ هنا فتأمله راشدا , وبالله التوفيق .
ثم اعلم أن الظنون , والشكوك , والأوهام جمع ظن , وشك , ووهم :
فالظن : ما ترجح من طرفي الممكن .
والشك : ما استوى الراجحية والمرجوحية من الممكن . والوهم : المرجوح من الطرفين . وكلاهما مبادي الخير والشر , فيطلب صرفها , لئلا تتمكن فلا يصح نفيها , كما قيل : ادفع ردى الخواطر قبل أن يسري الهم لئلا يعييك . ومما قيل أيضا : أول الذنب الخطرة , كما أن أول السيل قطرة . [والخطرة جمعها خواطر وهي هواجس القلب فلابد من دفع السيء منها قبل أن يتمكن ويزيد]وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إياكم والظن , فإن الظن أكذب الحديث) وإنما ينشأ الظن الخبيث عن القلب الخبيث , لافي جانب الحق , ولا في جانب الخلق , كما قيل :
إذا ساء فعل العبد ساءت ظنونه ــ وصدق ما يعتاده من توهم وعادى محبيه بقول عدوه ــ وأصبح في ليل من الشك مظلم وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ( خصلتان ليس فوقهما شيء من الشر , سوء الظن بالله ، وسوء الظن بعباد الله , وخصلتان ليس فوقهما شيء من الخير حسن الظن بالله , وحسن الظن بعباد الله ).
وقال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه : قرأت ليلة , قل أعوذ برب الناس , فقيل لي : شر الوسواس ؛وسواس بينك وبين حبيبك, يذكرك الشر , وينسيك الحسن , ويقلل عندك ذات اليمين. ويكثر عندك ذات الشمال , ليعدل بك عن حسن الظن بالله وكرمه إلى سوء الظن بالله , ورسوله , فاحذر هذا الباب فقد أخذ منه كثير من العباد والزهاد وأهل الطاعة والسداد , انتهى .
والعافية الكاملة هي سكون القلب إلى الله باليقين الموجب للرضا , والتسليم , والبلية كلها في الشك , والاضطراب , والتردد بين الخواطر المتزاحمة التي لا يهنا لصاحبها عيش , ولا يقر له قرار .ومظاهر هذه الظنون والشكوك والأوهام , إنما هي البلايا الظاهرة , والمحن العارضة ، وقد اجراها الله تعالى لعباده المؤمنين , ليميز الخبيث من الطيب , فيزداد اللذين آمنوا إيمانا , ويظهر على المنافقين كفراً وطغياناً .
ومن مقتضى ذلك أن يرجع المؤمنين إلى الله بالرجاء , والإلتجاء , وتصديق وعد الله في الامتحان , والابتلاء ، اذ قال تعالى : ( ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم (وقال سبحانه وتعالى : ( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتيكم مثل اللذين خلوا من قبلكم ) . وقال تعالى : ( ألم *أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ) . وإلى هذا أشار الشيخ بقوله: (فقد ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديداً , وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا ) .
قلت:أتى الشيخ بهذه الجملة كالمتعذر عن سؤال العصمة , وتعريضاً مما هو فيه من الشدة التي تحرك أثر النفس المثير لظهور المرض الكامن في القلب , المؤدي إلى سوء الظن بالله , كما وقع للمنافقين في غزوة الخندق إذ جاءهم العدو من فوقهم , ومن تحتهم , ومن أسفل منهم , وزاغت الأبصار , وبلغت القلوب الحناجر , وظن من في قلبه شيء بالله الظنونا , هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا , وظهر ما في قلوب المؤمنين على ألسنتهم , قال تعالى ( هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما ) فكأن ، الشيخ رضي الله عنه يقول : إنما سألت العصمة خوفاً من الزيغ عند الابتلاء الذي لابد منه للمؤمنين حتى يميز الخبيث من الطيب , لأنه لا عاصم من أمر الله إلا من رحم , وذلك من الشفقة على الإيمان , الذي هو رأس المال , وأساس الأعمال , قال تعالى ( ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى صراط مستقيم ) .
ثم قال الشيخ رضي الله عنه ( فثبتنا وانصرنا , وسخر لنا هذا البحر كما سخرت البحر لموسى عليه السلام , وسخرت النار لإبراهيم عليه السلام , وسخرت الجبال والحديد لداود عليه السلام , وسخرت الريح والشياطين والجن لسليمان عليه السلام ) . قلت :فالتقدير فثبتنا في محل الزلل , وهو موقف الشدائد والأهوال , وانصرنا على أعدائنا من المنافقين والذين في قلوبهم مرض , وسخر لنا هذا البحر الذي نحن فيه معرضون لذلك ؛ تسخيرا ينفي كل ما يخشى , ويأتي بكل ما يطلب ويرتجى .
وقد يقال :ثبتنا على الإيمان , وانصرنا باليقين , وسخر لنا هذا البحر من أمر الدنيا والدين حتى نسلم من الشكوك , والظنون , والأوهام , ونتأيد بحقائق الإيمان والإسلام،إذ من علامات التأييد حفظ التوحيد في أوقات الحكم , كما قال سيدي ابو علي الدقاق . والتشبيه في التسخير من جهة التيسير والكرامة , لامن جهة المقابلة والمناظرة ، لأن ذلك التسخير كان بكرامة الله , ومع إحسان الله , فكان مقويا للإيمان , كما أنه مظهر للإحسان . فسخر البحر لموسى عليه السلام في نجاته أولاً حين ألقته أمه فيه , ثم سخره له ثانية بنجاته مع إهلاك مكذبه وغرق عدوه . وسخرت النار لإبراهيم عليه السلام فجعلتها عليه برداً وسلاماً . وسخرت الجبال لداود عليه السلام والحديد بأن تسبح معه بالعشي والإشراق وتؤوب معه إلى ربها , وتسخير الحديد له بتليينه له , ولمن حضر معه , يعينه في أعمال الدروع حتى صار كالعجين بين أيديهم . وسخرت الريح لسليمان غدوها شهر ورواحها شهر .قال تعالى ( ومن الشياطين من يغصون له ويعملون عملا دون ذلك ) بل ( يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات ) كما أخبر الله سبحانه وتعالى عن ذلك . والشياطين نوع من الجن لم يعمل خيراً قط , ولا أهل له , عكس الملك , فذكره الشياطين من قبل الجن من ذكرالخصوص قبل العموم . والله ورسوله اعلم .
ثم قال الشيخ رضي الله عنه : ( وسخر لنا كل بحر هو لك في الأرض , والسماء , والملك والملكوت ، وبحر الدنيا , وبحر الآخرة , وسخر لنا كل شيء يا من بيده ملكوت كل شيء (
قلت : فسؤال تسخير كل بحر في الأرض والسماء من باب إظهار الفاقة لكل شيء ، وفي كل شيء , وفي ذلك تحقيق الافتقار إلى الله تعالى بكل حال .
ثم المُلك :هوعالم الشهادة والحس , فهو ما شأنه أن يدرك بالحس والوهم . والملكوت: عالم الغيب , والخفا , وهو من شأنه أن يدرك بالعقل والفهم . وهذا تفصيل بعد إجمال , وإجمال بعد تفصيل , يدل على تعظيم الربوبية , وتحقيق العبودية , ولأنه من باب اعظام المسئلة , لقوله صلى الله عليه وسلم ( إذا سألتم الله فعظموا المسئلة , فان الله لا يتعاظمه شيء ) , قالوا : إذن نكثر يا رسول الله , قال ( الله أكثر)آداب الدعاء : وقد استعمل الشيخ في هذا الطلب من آداب الدعاء البدء بالآحاد قبل الأعداد , فقد قال الأستاد ابو القاسم القشيري رحمه الله : كثرة المسائل قفل على الباب , وإنما يسأل الخير شيئًا بعد شيء .ومن معنى ذلك أن أدعية القران قليلة مرتبة في الغالب , بل غاية ما انتهى إليها عددها سبع دعوات في آخر سورة البقرة , وخمسة في سورة آل عمران , ولم يرد أكثر منها في محل واحد , فافهم .واعرف ذلك .
ومن آدابه ألا يسال إلا الأليق به في وقته , والمحتاج إليه قبل المستغنى عنه , كما فعله الشيخ رضي الله عنه , وأن لا يسأل محالاً شرعاً , ولاعقلاً , ولا عادة .
تعدد البحور
وفي كلام الشيخ تعدد البحور واختلافها حسا ومعنى , وذلك أوضح من مسمى البحر , فإنه عبارة عن كل أمر هائل , محتو على منافع ومضار غير محصورة حسا في الحسيات , ومعنا في المعنويات .وبحر الدنيا وبحر الآخرة ، يعني البحر الذي هو بالدنيا , والبحر الذي هو في الآخرة ، فإنهما هائلان ومهيلان , بل هما أعظم البحور , وفيهما معنوي وحسي , وكل ذلك لا يجري فيه إلا بتسخير الله , فوجب أن يرجع إلى الله فيه . وانما قال ( بيده ملكوت كل شيء ) ولم يذكر ملكه , اكتفاء بالأقوى عن الأضعف , فمن يملك ملكوته يملك ملكه ضرورة بخلاف العكس , والله اعلم .
ثم قال الشيخ رضي الله عنه : ( كهيعص , كهيعص , كهيعص ) لقد اختلف العلماء في هذه الفواتح المعجمة في أوائل السور , فقال قوم : هي من المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله وحده . وقال ابن السبكي : وقد يطلع الله عليه بعض أصفيائه . وقيل : هي اسم الله الأعظم . [قال ابن جرير في تفسير الآية الأولى من سورة البقرة حدثنا محمد بن المثنى قال حدثنا عبدالرحمن بن مهدي قال حدثنا شعبة قال سألت السدي عن {حم } و{طسم }و{الم }فقال :قال ابن عباس :هو اسم الله الأعظم .انتهى وهذا السند ثابت والسدي مختلف فيه وقد وثقة الإمام أحمد بن حنبل فقال هو ثقة ثبت .]
والذي يتحقق من ذلك أنها رموز لا يعلم حقيقتها غير واضعها , ولا يمنع اختلاف الفهم فيها من أن يكون لها معنى لا يدركه أحد من الخلق . ومن وجوه الفهم , إنها تراجم على ما تضمنته السورة من معاني ، والى ذلك نحا الشيخ برمزها , والله اعلم . وهي خمسة أحرف : كاف الكفاية , وهاء الهداية , وياء الولاية , وعين العناية , وصاد الصدق{كهيعص} . وكل هذه الأسماء الخمسة ظاهرة في كل قصة من هذه السورة المباركة (سورة مريم), ألا تراه كفى زكريا الموالي من ورائه، وهداه لدعائه , وشكره في حاله , باعترافه بعجزه عن ما أولاه من إصلاح زوجه ، وإتيانه ولداً مع ضعفه , واظهر عنايته عليه , وعلى زوجه وولديه فيما تولاهم به , ثم فعل ذلك بمريم وولدها , وإبراهيم وولديه , وموسى وأخيه , وما منّ به على أدريس , ونوح ، وغيرهم من الأنبياء عليهم السلام وتفصيل ذلك يطول , ووجه الفهم فيه بالبصائر أتم من الرسم . وعلى هذا الوجه , فذ كر الشيخ لها إنما هو تعريض بطلب الكفاية , والهداية , والولاية , والعناية , وتحقيق الوعد في الإجابة في طي التسخير المذكور على وجه لا يحصره الحد , ولا يحصيه العد , ولاتمكن الإشارة إليه إلا بالرموز . وكون ذلك على الوجه الواقع لمن ذكر كما تقدم في قوله (كما سخرت البحر لموسى.. ) إلى آخره فافهم . وقد تكون الحروف من أسماؤه جل وتعالى :الكافي , والهادي ، والولي , والعظيم , والصادق وعده .[ذكر ابن جرير في تفسيره عن الشعبي في أول آية من سورة البقرة أنه قال :فواتح السور من أسماء الله تعالى.انتهى]
وتكرير الشيخ الكلمة ثلاثاً ,اما اعتبار لحصول المعنى المقصود في جسمه. وقلبه , وروحه , أو اعتبار بطلب ذلك في الظاهر والباطن , أو فيهما , أواعتبار بالحال , والماضي , والاستقبال . وقد يكون اعتبارا بالمنفصلات , والمتصلات , والأمور المشتركة .
ثم قال الشيخ رضي الله عنه ( انصرنا فانك خير الناصرين , وافتح لنا فانك خير الفاتحين , واغفر لنا فانك خير الغافرين , وارحمنا فانك خير الراحمين , وارزقنا فانك خير الرازقين , واهدنا ونجنا من القوم الظالمين , وهب لنا ريحا طيبة كما هي في علمك ، وانشرها علينا من خزائن رحمتك , واحملنا بها حمل الكرامة , مع السلامة والعافية في الدين والدنيا والآخرة , إنك على كل شيء قدير) . هذا تفسير لموقع التسخير بماذا يكون ،فهذه الجملة تفصيل وتفسير في تفضيل , فالنصرة من بساط الكفاية , والفتح من بساط الهداية , والرزق من وجوه الولاية , والرحمة والهداية من عين العناية , والنجاة من صدق الوعد , قال تعالى ( وكان حقا علينا نصر المؤمنين ) , وذكر الريح الطيبة رجوع للحاجة المناسبة , وكونها ريحا طيبة هو المقصود لا مطلق الريح , إذ قد تكون مهلكة , بل كل ما جاء في القران من الريح بالأفراد , إنما جاء بالإهلاك غير ما قيد في قوله تعالى ( وجرين بهم بريح طيبة ) في مقابلة قوله تعالى ( جاءتها ريح عاصف ) فافهم . وقوله ( كما في علمك ) : كأنه يقول : الريح الطيبة في علمك هبها لنا , كان ذلك موافقا لعلمنا أو مخالفا له , لأنه لا يعلم النافع والأنفع على الحقيقة إلا أنت .
ثم قوله رضي الله عنه :( وانشرها علينا من خزائن رحمتك ) : يعني , واجرها لنا بالرحمة , ومن عين الرحمة , لا بالغضب , ولا من عين الغضب , لأنه تعالى قد يرحم بما به يعذب , وبعذب بما به يرحم , وقد اهلك الله قوم عاد بالريح , وسخرها لسليمان عليه السلام , فكانت من النعم في ملكه ,و أجراها كذلك في البر والبحر. وكذا سائر الأسباب الجارية , يرحم بها قوما ويعذب بها قوما آخرين ، فإذا جرت من بساط الرحمة كانت نعمة , وإذا جرت من بساط الغضب كانت نقمة , ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يقول عند هيجان الريح : ( اللهم لا تهلكنا بسخطك وعقابك وعافنا قبل ذلك ) وقد يكون طلبه من بساط الرحمة لا بسبب ولا بعلة .
وقوله رضي الله عنه :( واحملنا بها حمل الكرامة مع السلامة والعافية في الدين والدنيا والآخرة ) يعني واحملنا بالريح حمل الكرامة التي حملت بها آدم وبنيه , ونوحاً وذريته , فقلت وقولك الحق : ( ولقد كرمنا بني ادم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ) . احترز بحمل الكرامة من حمل الإهانة الذي سلط على قوم عاد , إذ كانت تحمل البعير بحمله , قال تعالى : ( ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم ) .
ولا يتم أمر الدنيا والآخرة إلا بالهناء، حتى أن أهل الجنة في الجنة لولا قوله تعالى (هنيئا ) بعد قوله ( كلوا واشربوا ) ما صح كونه منّة عليهم .
ثم قال الشيخ رضي الله عنه ( اللهم يسر لنا أمورنا مع الراحة لقلوبنا وأبداننا , والسلامة والعافية في ديننا ودنيانا , وكن لنا صاحبا في سفرنا , وخليفة في أهلنا , واطمس على وجوه أعدائنا , وامسخهم على مكانتهم فلا يستطيعون المضيء ولا المجيء إلينا) . لماسأل الشيخ ـ رضي الله عنه ـ العافية والسلامة في الدين والدنيا والآخرة , سأل التيسير مع ذلك في الأمور , لأنه ليس لازم لهما . ولا عبرة به إلا معهما , وكل ذلك دون راحة القلب والجوارح لا فائدة فيه . وإنما قدم ذكر الدنيا على الآخرة لأن السلامة والعافية فيها أصل في تحصيل الآخرة , وكمال فضائلها،إذ لا كمال مع فساد الطبيعة , ولا راحة من مزعجات النفس , ولابد من علم , وعقل , وعيش في جميع الأحوال , ولذلك قال سيدي بن عطاء الله في الحكم : من تمام النعمة عليك أن يرزقك ما يكفيك , ويمنعك ما يطغيك , ليقل ما تفرح به , ويقل ما تحزن عليه . انتهى .
وقول الشيخ رضي الله عنه ( وكن لنا صاحبا في سفرنا وخليفة في أهلنا ) : يعني لا نظلم ولا نضام، ويجري الخير فيما خلقنا كما هو معنا , وهذا مأخوذ من قوله صلى الله عليه وسلم (( اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل )) . والخليفة , هو كافل الأمر وكافيه بعد مستحقه بتوكيله .
والصاحب : الملازم بإبداء المنافع ودفع المضار , واطلاقها في حق الباري سبحانه على معنى الكفاية , والكفاية بزيادة الرحمة , والإعانة ، وإجراء المنافع , ودفع المضار , ولولا أن الشارع أتى بهذين اللفظين ما صح إطلاقها على أحد , وإنما أطلقها الشارع تقريبا للإفهام . ثم اختلف العلماء في جواز ذلك لغيره اعتبارا بالمعنى وعُرف التخاطب , أو اتقاء مواقف الشبهة والإشكال , فتدبر ذلك , واعرفه .
وقول الشيخ رضي الله عنه ( واطمس على وجوه أعدائنا ) : معناه رد وجوههم على أدبارهم , حتى لا يمكنهم التصرف على وجه يريدونه .
وقوله ( وامسخهم على مكانتهم ) : يعني الزمهم إياها عجزا وضعفا فلا يستطيعون المضي عن أماكنهم لغيرها , ولا المجيء إلينا فيستريح غيرنا منهم كما نستريح.
ثم قال الشيخ رضي الله عنه , آية الطمس , والمسخ , والتغشية , فقال : قال تعالى ( ولو نشاء لطمسنا على أعينهم فاستبقوا الصراط فأنى يبصرون , ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم فما استطاعوا مضيا ولا يرجعون ) . وإنما تلي هذه الآية بعد الدعاء بمقتضاها تحقيقا لما تقتضيه من جواز إيقاع ذلك , واستدلالاً لطلبه إياه , وتبركاً بالآية في حصول المقصود منها في حق الأعداء , وإشارة , لأن وقوع ذلك من خاصيتها ؛لأن كل ذكر فخاصيته في معناه , وتصريفه في مقتضاه , وسره في عدده والله أعلم .
وقد تقدم معنى الطمس , والمسخ , ومتى طمست الأبصار امتنع الإبصار , فاستبق أهلها الصراط لينفذوا فلم يجدوه , وان وجدوا لم يصلوه , وان وصلوه لم يقدروا النفوذ عليه , ولكنهم ممنوعون من ذلك لطمسهم ومسخهم .
( فأنى ) آي : كيف يبصرون مع ذلك , ثم رجع الشيخ رضي الله عنه لأول السورة فقال قال تعالى ( بس والقران الحكيم ....................... وإنما تلي الشيخ هذه الآية ,لأن سر الافتتاح يسري في كل السورة , ومدار السورة على مقدمتها , فالحرفان الأولان ترجمة ما تدور عليه السورة من الولاية , والسلامة , وظهور معنى اسمه السلام بعد الولي , وبيان ذلك: أنه افتتح بعد ذلك بقسمه بالقرآن الحكيم على أنه صلى الله عليه وسلم من المرسلين , وأنه على صراط مستقيم , وأن ذلك الصراط المستقيم تنزيل الذي لا يذل من والاه , الرحيم الذي يسلم من تولاه , وأن ذلك لينذر قوماً لم يسبق إليهم ولا لآبائهم إنذارا , فهم قول غفل , وأن ذلك إنذار , وإعذار , وتنبيه لمن أراد الله نفعه , وإلا فقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون . وانما يؤمن ويرجع الأقل الذي أراد الله به الإحسان ، فهو إخبار عن تسليمه لنبيه وسلامته وولايته له , ولعامة المؤمنين من عباده . ثم انظر كذلك إلى آخر السورة تجده متتابعا , مسترسلاً في المعنى , ومتحداً في السر والمبنى إلى قوله تعالى ( فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء واليه ترجعون ) . نعم , وجميع ما في القران يدور على ما ذكر من الولاية , والتسليم بمعنى أنه مقصود له , ومن ثم جاء في الحديث الشريف ( قلب القرآن يس ) كما رواه الترمذي وغيره . قيل : وقلب يس ( سلام قولاً من رب رحيم , وامتازوا اليوم أيها المجرمون ) . فإن قلت : فلم أخر السورة عن الآية التي بعدها , وقدم الآية التي بعدها قبلها ؟ قلت :إنما أتى بالآية أولاً استطرادا , ثم ذكر أول السورة استذكاراً , وكأنه تنبيه على أن معنى ما ذكر سارياً في كل ما ذكر , والآخذ منه بحسب المقاصد , ولا يضر التقطع إذا لم يكن مقصوداً للتحويل. ولم يفهم تغير النظم , والله اعلم .

ثم قال الشيخ رضي الله عنه ( شاهت الوجوه , شاهت الوجوه , شاهت الوجوه{ وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلما } ).
قلت : شاهت الوجوه يعني ذلت , وخضعت , وخابت , وخسرت , فانصرفت بغير مرادها , مقهورة , مغلوبة . وهذه الكلمة قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد حين قابل الجيش بعد جولة المسلمين ، وافتراقهم عنه لظنهم موته , إذ صرخ الشيطان , فأخذ صلى الله عليه وسلم كفا ًمن الحصى , ورمى بها وجوههم قائلا : ( شاهت الوجوه ) فما منهم رجل إلا وجاء في عينيه الحصى المرمي به , وانهزموا فارين وهو صلى الله عليه وسلم يقول : أنا النبي لا كذب ـ أناابن عبد المطلب
وأنزل الله سبحانه وتعالى في ذلك ( وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ) الآية , فهي موضوعة لهزم الجيوش , وصرف العدو تأسيا ًبالسنة ،وعلى ذلك جرى الشيخ في سياقها , إذ الحقها بآية صرفها الأعداء ,وطمسهم طلبا ًللنصرة في الجملة , واتباع ذلك بقوله ( وعنت الوجوه للحي القيوم ) , واستطرادا لذلك وتنبيهاأن كل من دونه محتقر , إذ معنى (عنت ) ذلت وخضعت . والحي القيوم ، هو الله سبحانه وتعالى. فالحي الذي يموت حياته مستعارة لا حقيقة لها إلا بالحي الذي لا يموت .
والقيوم: هو القائم بنفسه الغني عن كل ماسواه ،وكل شيء فقير إليه . فالحي القيوم من الأسماء العظيمة , أسماء الذات الكريمة وقد قيل هو اسم الله الأعظم , وهو الذي دلت عليه الأحاديث , وشهدت به حقائق المعاني . وفي حديث أسماء بنت عميس رضي الله عنها - : اسم الله الأعظم في آل عمرن والبقرة - . وقو الشيخ رضي الله عنه ( وقد خاب من حمل ظلما ) يعني في الدنيا بعدم النصر ، وانتفاء التأييد , وفي الآخرة بالطرد والعذاب الشديد , فهو متوعد بالخيبة في الدارين ، ثم لابد من أخذة لا ينفعه فيها شيء , ولا يزال الله ينتقم من ظالم بظالم حتى ينتقم منهم جميعاً , قال تعالى ( وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون ) . وهذا كله على معنى الخبر في الآية , ويكون الشيخ رضي الله عنه أتى بها استطرادا وبناء على حسن الظن بالله , ويكون بمعنى الدعاء عليهم بالخيبة فيما هم به ، فانظر ذلك .
ثم قال الشيخ رضي الله عنه (طس , حمعسق , مرج البحرين يلتقيان , بينهما برزخ لا يبغيان , حم ,حم ,حم , حم , حم ,حم ,حم ,حُم الآمر , وجاء النصر , فعلينا لا ينصرون ) .
قلت :هذه الرموز للتبرك , وعلى الوجه الذي تقدم في ( كهيعص ) و ( يس ) من الإشارة والتنبيه إن شاء الله , فالطاء للطهارة , والسين للسلامة , والقاف للقدرة، لأن سورة النمل قد أفادت كل قصصها طهارة المؤمنين وسلامتهم , وكذا كل ما ذكر فيها : فأول ذلك طهارة موسى عليه السلام وسلامته من فرعون وقومه . وسلامة سليمان وداود عليهما السلام في ملكهما من كل نقص , وظلم , وقصور , وتقصير ،ثم سلامة الهدهد وطهارته من المخالفة فيما هو به . ثم سلامة بلقيس وطهارتها بالإسلام . وسلامة جند سليمان عليه السلام وطهارتهم في مقابلة قومها . ثم طهارة صالح عليه السلام وسلا مته من قومه . ثم طهارة هود عليه السلام وسلامته من فعل قومه وآذاهم . ثم طهارة عباد الله المخلصين , وسلام الله عليهم . واجر على ذلك بقية السورة , واعتبر ظهور سر الملك والرمز له بالميم في بقية الطواسيم , وسقوطها من هذه لظهور معناها بوجه جلي , وإنما يرمز للأمور الخفية حتى يكون سر المعنى ظاهراً من وجه الرمز , ومن ذلك إسقاطه البسملة من سورة التوبة , إذ إنما أسقطت فيها تنبيهاً على أنها اختصت من الرحمة ما لم يختص به غيرها , وهو تنزل الحق لعباده بالاشتراء , وتعريفهم بأحوال آهل الافتراء , حتى لا يقع مواقع الصد والامتراء . وقس على هذا , واعتبر في الحواميم بما هو معناها ، واعتبر قوله : ( حمعسق ) لأن (حم ) للحماية , ولذلك قال صلى الله عليه وسلم للصحابة يوم أحد : ( ليكن شعاركم حم لا ينصرون ) , إذ أن الله يدافع عن اللذين آمنوا . وترجمة ذلك في قولهم " الله مولانا ولا مولى لكم " في مقابلة قولهم " لنا العزى ولا عزى لكم " وقولهم " الله أعلى وأجل " في مقابلة قول قائلهم " أعل هبل " وقوله ( عسق ) إشارة لاسمه العليم , السميع , القيوم , فتحصل العناية بالحماية ، والسلامة , والقيام في الأمور , اذ الحماية مرجوة بعلمه , وتسليمه , وقدرته بالحماية من حضرة الأفعال . وما ذكر في العين , والسين , والقاف من معاني الصفات , وهما بحران جاريان في المخلوقات , ممتزجان في ظهور الأثر , غير ممتزجين بالحقيقة , والخبر بينهما
برزخ هو الفعل والانفعال .
( لا يبغيان )أي لا يبغي واحد منهما على الأخير فينفيه أو ينافيه .
ثم ذكر الشيخ الحواميم السبعة وعددها على أن وجوب الحمايات سبعة , يختلف أصلها , وفرعها ، وبساطها , وانبساطها باختلاف في ظهورها ومظاهرها . وقد جمع ما في ترجمة أولها من قوله تعالى ( حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا اله إلا هو إليه المصير ) . كل واحد بسط على ما وقعت عليه بما فيها من القصص وغيرها , وتنبيه على ما دلت عليه , وفي كل سورة نكتة جامعة , وآية واضحة :كظهور عزه وعلمه في السورة الأولى ـ سورةغافرـ التي نكتتها ( إنا لننصر رسلنا... ) الاية ، وخاتمتها قوله تعالى ( سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون ) . وظهور غفرانه وعطفه في السورة الثانية ـ فصلت ـ التي بدايتها ذكر الرحمة ونكتتها قوله تعالى ( ما يقال لك إلا ما قيل للرسل من قبلك أن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم ) , وخاتمتها قوله تعالى ( أولم يكف بربك أنه على كل شيء حفيظ ) إلى قوله تعالى ( محيط ) . وظهور توبته وعفوه في السورة الثالثة التي طالعتها ذكره تعالى أنه علي , عظيم , ونكتتها قوله تعالى ( وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما يفعلون ) , وخاتمتها قوله تعالى ( وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم ). وظهور عقابه للكافرين وزجرهم في سورة الزخرف , وهي الرابعة , واعتبر ذلك بما في طالعتها من قوله تعالى ( وكم أرسلنا من نبي في الأولين ) ونكتتها في ذكر تفاصيل عذاب أهل النار , وندائهم بقوله تعالى ( ليقض علينا ربك ) إلى غير ذلك , وخاتمتها قوله تعالى ( فاصفح عنهم وقل سلام فسوف تعلمون ) , وظهور طوله أي غناه. ووجود الخير في بداية السورة الخامسة , التي هي سورة الدخان التي طالعتها قوله تعالى ( فيها يفرق كل أمر حكيم ) ونكتتها قوله تعالى ( إن يوم الفصل ميقاتهمأجمعين ) إلى قوله تعالى ( ذق إنك أنت العزيز الكريم ) , ثم إلى آخر السورة ظاهر في تعريف الغنى والعز , وظهور الألوهية وبرهانها في سورة الجاثية , إذ بدايتها وجه الاعتبار ، وأوسطها قوله تعالى ( ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ) وخاتمتها قوله تعالى ( فلله الحمد رب السموات ورب الأرض رب العالمين ) . ثم ذكر أن الأمور تصير إليه سبحانه وتعالى في سورة الأحقاف , إذ جعل طالعتها مبدأ الخلق وإليه المنتهى أولاً , وجملتها بسط وجودهم وموجودهم , وخاتمتها قوله تعالى ( فهل يهلك إلا القوم الفاسقون ) . فتأمل ذلك , وانظر ببصر بصيرتك , تجده تام الاعتبار , على وجه لا أقدر على استيفائه , ولا يستوفيه إلا ذو القلوب والأبصار , وأهل النظر والاعتبار ، وربك الفتاح العليم .
وقوله ( حُم الآمر ) معناه اشتد , واستوى , وتتابع .
وقوله ( وجاء النصر ) : آي الإعانة بيد القدرة . وقوله( فعلينا لا ينصرون ) يعني الأعداء , ومن في معناهم , وقد جاء في الحديث الشريف [(من قرأ حم المؤمن إلى { الله المصير } وآية الكرسى حين يصبح حفظ بهما حتى يمسى ومن قرأهما حين يمسى حفظ بهما حتى يصبح قال الإمام السيوطي رحمه الله رواه (الترمذى ، وابن السنى ، وأبو الشيخ ، والبيهقى فى شعب الإيمان عن أبى هريرة)انظر سنن الترمذي (5/157 ، رقم 2879) وقال : غريب ]. وقد تقدم الكلام عليها , فتأمله راشدا , وبالله التوفيق .
ثم قال الشيخ رضي الله عنه ( بسم الله بابنا , تبارك حيطاننا , يس سقفنا , كهيعص كفايتنا , حم عسق حمايتنا , فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم )
قلت : يقول الشيخ : بسم الله ندخل الأمور , ونخرج منها , وبه نتحصن من كل آفة وفتنة , لأن الباب هو المدخل , والحصن من كل آفة وفتنة , فهي باب الأمور ومفاتيحها. وقدأمر سبحانه وتعالى بذكر اسمه الكريم في البدايات , تارة مع تكميل البسملة , وتارة دون تكميلها . فالبسملة باب , وتبارك حيطان - يعني سورة تبارك - لأنها حصن من الأعداء , وجامعة للمنافع , كما جاء في فضلها - أعني سورة تبارك - الملك , ولأنها موقف التوكل،والمجادلة , والحراسة لمن تبرك بقراءتها . قالوا وعليها كان سلوك الشيخ سيدي أبي مدين رضي الله عنه , ويناسبها من الأذكار ( لا إله إلا الله وحده لا شريك له , له الملك , وله الحمد , وهو على كل شيء قدير ) فلذلك كانت خلوته بها . وسورة )قل أعوذ برب الناس ) من معنى ذلك .والله أعلم ويس هي السقف الذي به الستر , ودفع الأمور النازلة , فسورة يس لمن تلاها ستر وحماية. [قال الدارمي حدثنا عمرو بن زرارة ثنا عبد الوهاب ثنا راشد أبو محمد الحماني عن شهر بن حوشب قال قال بن عباس : من قرأ يس حين يصبح أعطي يسر يومه حتى يمسي ومن قرأها في صدر ليلة أعطي يسر ليلته حتى يصبح )) انظر سنن الدارمي حديث رقم 3419].
وقد تقدم ما في ( كهيعص ) من المعنى والمبنى , وأن خاصية كل اسم من معناه , وتصريفه في مقتضاه وسره في عدده . وقد تقدم ايضا ما في قوله ( حم عسق ) وأنها حماية , وعناية , وسلامة , وقيام . وانما ذكرها ثلاثا , لأن سنة الذكر ثلاثا , والله اعلم.
ثم قال الشيخ رضي الله عنه ( ستر العرش مسبول علينا , وعين الله ناضرة إلينا , بحول الله لا يقدر علينا * والله من ورائهم محيط بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ * فالله خيرحافظا وهو ارحم الراحمين * )
قلت : هذه الجملة تعوذ وتحصن , واستناد إلى الله في طلب الستر والحفظ , فستر العرش هو الستر الشامل الكامل , الذي عم الخلائق، لأنه سقف الجنة .
وعين الله: رحمته وافضاله .
وقوله تعالى ( بل هو قران مجيد ) يعني عظيم , رفيع القدر , في لوح محفوظ من التبديل والتغير , أي فكما حفظ يكون الحفظ به ،تم تلي آية الحفظ , وهي قوله تعالى ( فالله خير حافظا ) ويعني حفظه خير من حفظ الأسباب وغيرها , لأنه أرحم الراحمين , بل لا رحمة إلا منه سبحانه وتعالى , فالرحمة بساط الحفظ , وكمال الحفظ بكمال الرحمة ( لا اله إلا هو الرحمن الرحيم ).
ثم قال الشيخ رضي الله عنه ( إن ولي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين ) ثلاثاً. ( حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم ) ثلاثاً . ( و لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم ) ثلاثاً
قلت : لما ذكر في الجملة التي قبل هذه استناده إلى الله وأن ما سواه تعالى لا يساوي شيئا , ذكر في هذه الجملة انقطاعه مما سوى الله بالرجوع إلى ولايته , لأنه هو الذي يتولى الصالحينأي المنقطعين إليه , الذين لا يلوون على غيره , فلم يدعهم لسواه , إذ لم يبق فيهم بقية لغيره . قال الله تعالى : ( ومن يتول الله ورسوله واللذين آمنوا فان حزب الله هم الغالبون ) . وقال عز من قائل : ( ومن يتوكل على فهو حسبه ) آي : كافيه , وواقيه , وناصره . والصالحون هم اللذين صلحت أحوالهم , واعمالهم , فلم تصلح قلوبهم لغيره , ولا جوارحهم لغير اتباع أمره , فيدخل فيهم الأعلى والأدنى ومن خاصته وأهله , وهم اللذين تحققوا وتخلقوا بمقتضى قوله تعالى ( حسبي الله ) أي اكتفيت به , فلا أطلب غيره , ولا أطلب من غيره , لأنه لا إله إلا هو .
وقوله ( لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ) يعني لا حركة , ولا ثبات , إلا بالله وبأذنه , وتقديره . وجاء في الحديث : ( أنها كنز من كنوز الجنة , وأنها تدفع سبعين بابا من البلاء أدناهم الهم ).
وإنما وصف الأولياء بأنهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون , لأنهم قد استسلموا إلى الله , ورضوا عنه , فلا يختارون غير مختاره , وذلك أمر لا يصح معه حزن ولا خوف . والله أعلم وقد تقدم معنى ( العلي , العظيم ) أول الكتاب فانظره هناك . وانما ذكر الأوراد ثلاثاً ثلاثاً لما ذكرناه من أن سنة الدعاء والتعوذ والرقي , ونحوه أن يكون ثلاثاً , والله أعلم .
انتهى ما أردته من تهذيب واختصار لشرح حزب البحر لسيدنا الإمام العلامة أحمد زروق رحمه الله تعالى وجزاه خيراً . وصلى الله وسلم على سيدنا محمد صلاة تخرجنا من ظلمات الوهم وتكرمنا بنور الفهم وتوضح لناما أشكل حتى نفهم ،إنك تعلم ولا نعلم إنك أنت علام الغيوب والحمد لله رب العالمين.

هذبه واختصره :نعمة الله الشاذلي